فصل: الْمَوْضِعُ السَّادِسُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الصَّدَاقِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ فِي التَّفْوِيضِ:

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نِكَاحَ التَّفْوِيضِ تعريفه وحكمه جَائِزٌ، وَهُوَ أَنْ يُعْقَدَ النِّكَاحُ دُونَ صَدَاقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}. وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ فَرْضَ الصَّدَاقِ وَاخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ.
الْمَوْضِعُ الثَّانِي: إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَفْرِضْ، هَلْ لَهَا صَدَاقٌ أَمْ لَا؟

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ فَرْضَ الصَّدَاقِ وَاخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ]:

فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى (وَهِيَ إِذَا قَامَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُبُ أَنْ يَفْرِضَ لَهَا مَهْرًا): فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَفْرِضُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ فِي ذَلِكَ خِيَارٌ. فَإِنْ طَلَّقَ بَعْدَ الْحُكْمِ: فَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهَا شَيْءٌ، لِأَنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ لَمْ يَكُنْ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ: الزَّوْجُ بَيْنَ خِيَارَاتٍ ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُطَلِّقَ وَلَا يَفْرِضَ، وَإِمَّا أَنْ يَفْرِضَ مَا تَطْلُبُهُ الْمَرْأَةُ بِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَفْرِضَ صَدَاقَ الْمِثْلِ وَيُلْزِمَهَا.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ (أَعْنِي: بَيْنَ مَنْ يُوجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ لِلزَّوْجِ إِذَا طَلَّقَ بَعْدَ طَلَبِهَا الْفَرْضَ، وَمَنْ لَا يُوجِبُ): اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} هَلْ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْعُمُومِ فِي سُقُوطِ الصَّدَاقِ، سَوَاءٌ كَانَ سَبَبُ الطَّلَاقِ اخْتِلَافَهُمْ فِي فَرْضِ الصَّدَاقِ، أَوْ لَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ سَبَبُهُ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَهَلْ يُفْهَمُ مِنْ رَفْعِ الْجُنَاحِ عَنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْمَهْرِ فِي كُلِّ حَالٍ، أَوْ لَا يُفْهَمُ ذَلِكَ؟
فِيهِ احْتِمَالٌ، وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ سُقُوطَهُ فِي كُلِّ حَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}. وَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي أَنَّهُ إِذَا طَلَّقَ ابْتِدَاءً أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَقَدْ كَانَ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ لَهَا الْمُتْعَةَ مَعَ شَطْرِ الصَّدَاقِ إِذَا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي نِكَاحِ غَيْرِ التَّفْوِيضِ، وَأَوْجَبَ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُوجِبَ لَهَا مَعَ الْمُتْعَةِ فِيهِ شَطْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ، لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ بِمَفْهُومِهَا لِإِسْقَاطِ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَإِنَّمَا تَعَرَّضَتْ لِإِبَاحَةِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الْفَرْضِ، فَإِنْ كَانَ يُوجِبُ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ مَهْرَ الْمِثْلِ إِذَا طُلِبَ فَوَاجِبٌ أَنْ يَتَشَطَّرَ إِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ، كَمَا يَتَشَطَّرُ فِي الْمُسَمَّى، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ مَعَ خِيَارِ الزَّوْجِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ (وَهِيَ إِذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ تَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا): فَإِنَّ مَالِكًا وَأَصْحَابَهُ وَالْأَوْزَاعِيَّ قَالُوا: لَيْسَ لَهَا صَدَاقٌ وَلَهَا الْمُتْعَةُ وَالْمِيرَاثُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ وَالْمِيرَاثُ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَدَاوُدُ. وَعَنِ الشَّافِعِيِّ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا، إِلَّا أَنَّ الْمَنْصُورَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ: أَمَّا الْأَثَرُ: فَهُوَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: «أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي: أَرَى لَهَا صَدَاقَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهَا، وَلَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ، فَقَامَ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ الْأَشْجَعِيُّ، فَقَالَ: أَشْهَدُ لَقَضَيْتَ فِيهَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍّ» خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا: فَهُوَ أَنَّ الصَّدَاقَ عِوَضٌ، فَلَمَّا لَمْ يُقْبَضِ الْمُعَوَّضُ لَمْ يَجِبِ الْعِوَضُ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: إِنْ ثَبَتَ حَدِيثُ بَرْوَعَ فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مَعَ السُّنَّةِ، وَالَّذِي قَالَهُ هُوَ الصَّوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ فِي الْأَصْدِقَةِ الْفَاسِدَةِ:

وَالصَّدَاقُ يَفْسُدُ إِمَّا لِعَيْنِهِ، وَإِمَّا لِصِفَةٍ فِيهِ مِنْ جَهْلٍ أَوْ عُذْرٍ، فَالَّذِي يَفْسُدُ لِعَيْنِهِ فَمِثْلُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَمَلَّكَ، وَالَّذِي يَفْسُدُ مِنْ قِبَلِ الْعُذْرِ وَالْجَهْلِ فَالْأَصْلُ فِيهِ بِالْبُيُوعِ، وَفِي ذَلِكَ خَمْسُ مَسَائِلَ مَشْهُورَةٍ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى:[إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا أَوْ بَعِيرًا شَارِدًا]:

إِذَا كَانَ الصَّدَاقُ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ ثَمَرَةً لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا أَوْ بَعِيرًا شَارِدًا. فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْعَقْدُ صَحِيحٌ إِذَا وَقَعَ فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: فَسَادُ الْعَقْدِ وَفَسْخُهُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ ثَبَتَ، وَلَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ حُكْمُ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْبَيْعِ، أَمْ لَيْسَ كَذَلِكَ؟
فَمَنْ قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ قَالَ: يَفْسُدُ النِّكَاحُ بِفَسَادِ الصَّدَاقِ، كَمَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِفَسَادِ الثَّمَنِ. وَمَنْ قَالَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ عَقْدِ النِّكَاحِ صِحَّةُ الصَّدَاقِ، بِدَلِيلِ أَنَّ ذِكْرَ الصَّدَاقِ لَيْسَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ قَالَ: يَمْضِي النِّكَاحُ، وَيُصَحَّحُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدُّخُولِ وَعَدَمِهِ ضَعِيفٌ، وَالَّذِي تَقْتَضِيهِ أُصُولُ مَالِكٍ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الصَّدَاقِ الْمُحَرَّمِ الْعَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ لِصِفَةٍ فِيهِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَلَسْتُ أَذْكُرُ الْآنَ فِيهِ نَصًّا.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:[إِذَا اقْتَرَنَ بِالْمَهْرِ بَيْعٌ]:

وَاخْتَلَفُوا إِذَا اقْتَرَنَ بِالْمَهْرِ بَيْعٌ حكمه مِثْلَ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ عَبْدًا وَيَدْفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَنِ الصَّدَاقِ وَعَنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ، وَلَا يُسَمَّى الثَّمَنُ مِنَ الصَّدَاقِ: فَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَأَجَازَهُ أَشْهَبُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَفَرَّقَ عَبْدُ اللَّهِ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْبَيْعِ رُبُعَ دِينَارٍ فَصَاعِدًا بِأَمْرٍ لَا يُشَكُّ فِيهِ جَازَ. وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَمَرَّةً قَالَ: ذَلِكَ جَائِزٌ، وَمُرَّةً قَالَ: فِيهِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ شَبِيهٌ بِالْبَيْعِ، أَمْ لَيْسَ بِشَبِيهٍ؟
فَمَنْ شَبَّهَهُ فِي ذَلِكَ بِالْبَيْعِ مَنَعَهُ، وَمَنْ جَوَّزَ فِي النِّكَاحِ مِنَ الْجَهْلِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ قَالَ: يَجُوزُ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:[فِيمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً وَاشْتُرِطَ عَلَيْهِ فِي صَدَاقِهَا حِبَاءٌ]:

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً وَاشْتُرِطَ عَلَيْهِ فِي صَدَاقِهَا حِبَاءٌ يُحَابِي بِهِ الْأَبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الشَّرْطُ لَازِمٌ وَالصَّدَاقُ صَحِيحٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمَهْرُ فَاسِدٌ وَلَهَا صَدَاقُ الْمَثَلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ الشَّرْطُ عِنْدَ النِّكَاحِ فَهُوَ لِابْنَتِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ النِّكَاحِ فَهُوَ لَهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَشْبِيهُ النِّكَاحِ فِي ذَلِكَ بِالْبَيْعِ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْوَكِيلِ يَبِيعُ السِّلْعَةَ وَيَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ حِبَاءً قَالَ: لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ. وَمَنْ جَعَلَ النِّكَاحَ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْبَيْعِ قَالَ: يَجُوزُ.
وَأَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ فَلِأَنَّهُ اتَّهَمَهُ إِذَا كَانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الَّذِي اشْتَرَطَهُ لِنَفْسِهِ نُقْصَانًا مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَلَمْ يَتَّهِمْهُ إِذَا كَانَ بَعْدَ انْعِقَادِ النِّكَاحِ وَالِاتِّفَاقِ عَلَى الصَّدَاقِ، وَقَوْلُ مَالِكٍ هُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي عُبَيْدٍ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نُكِحَتْ عَلَى حِبَاءٍ قَبْلَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لَهَا، وَمَا كَانَ بَعْدَ عِصْمَةِ النِّكَاحِ فَهُوَ لِمَنْ أُعْطِيَهُ، وَأَحَقُّ مَا أُكْرِمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ وَأُخْتُهُ». وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ صَحَّفَهُ، وَلَكِنَّهُ نَصٌّ فِي قَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إِذَا رَوَتْهُ الثِّقَاتُ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّدَاقِ يُسْتَحَقُّ أَوْ يُوجَدُ بِهِ عَيْبٌ حكمه، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: النِّكَاحُ ثَابِتٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ تَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ أَوْ بِالْمِثْلِ أَوْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ؟
وَاخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَقَالَ مَرَّةً بِالْقِيمَةِ، وَقَالَ مَرَّةً بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِي ذَلِكَ: فَقِيلَ تَرْجِعُ بِالْقِيمَةِ، وَقِيلَ: تَرْجِعُ بِالْمِثْلِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ اللَّخْمِيُّ: وَلَوْ قِيلَ: تَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ مِنَ الْقِيمَةِ أَوْ صَدَاقِ الْمِثْلِ لَكَانَ ذَلِكَ وَجْهًا. وَشَذَّ سَحْنُونٌ فَقَالَ: النِّكَاحُ فَاسِدٌ.
وَمَبْنَى الْخِلَافِ: هَلْ يُشْبِهُ النِّكَاحُ فِي ذَلِكَ الْبَيْعَ أَوْ لَا يُشْبِهُهُ؟
فَمَنْ شَبَّهَهُ قَالَ: يَنْفَسِخُ. وَمَنْ لَمْ يُشَبِّهْهُ قَالَ: لَا يَنْفَسِخُ.
الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ عَلَى أَنَّ الصَّدَاقَ أَلْفٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَالصَّدَاقُ أَلْفَانِ حكمه، فَقَالَ الْجُمْهُورُ بِجَوَازِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: الشَّرْطُ جَائِزٌ، وَلَهَا مِنَ الصَّدَاقِ بِحَسَبِ مَا اشْتَرَطَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: إِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا الْمُتْعَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ فَلَهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِنَ الْأَلْفَيْنِ، أَوْ أَقَلَّ مِنَ الْأَلْفِ. وَيَتَخَرَّجُ فِي هَذَا قَوْلٌ: أَنَّ النِّكَاحَ مَفْسُوخٌ لِمَكَانِ الْغَرَرِ، وَلَسْتُ أَذْكُرُ الْآنَ نَصًّا فِيهَا فِي الْمَذْهَبِ. فَهَذِهِ مَشْهُورُ مَسَائِلِهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ، وَفُرُوعُهُ كَثِيرَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يُعْتَبَرُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ إِذَا قُضِيَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَمَا أَشْبَهَهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَبَرُ فِي جِمَالِهَا وَنِصَابِهَا وَمَالِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُعْتَبَرُ بِنِسَاءِ عَصَبَتِهَا فَقَطْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ نِسَاءُ قَرَابَتِهَا مِنَ الْعَصَبَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ: هَلِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَنْصِبِ فَقَطْ، أَوْ فِي الْمَنْصِبِ وَالْمَالِ وَالْجِمَالِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِدِينِهَا وَجِمَالِهَا وَحَسَبِهَا» الْحَدِيثَ.

.الْمَوْضِعُ السَّادِسُ فِي اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الصَّدَاقِ:

وَاخْتِلَافُهُمْ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي الْقَبْضِ أَوْ فِي الْقَدْرِ، أَوْ فِي الْجِنْسِ، أَوْ فِي الْوَقْتِ (أَعْنِي: وَقْتَ الْوُجُوبِ). فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْقَدْرِ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ مَثَلًا بِمِائَتَيْنِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بِمِائَةٍ، فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّهُ إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَتَى الزَّوْجُ بِمَا يُشْبِهُ، وَالْمَرْأَةُ بِمَا يُشْبِهُ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ. وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا وَنَكَلَ الْآخَرُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْحَالِفِ. وَإِنْ نَكَلَا جَمِيعًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا إِذَا حَلَفَا جَمِيعًا. وَمَنْ أَتَى بِمَا يُشْبِهُ مِنْهُمَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ الدُّخُولِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٌ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ إِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا، وَقَوْلُ الزَّوْجِ فِيمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إِذَا اخْتَلَفَا تَحَالَفَا وَرُجِعَ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَمْ تَرَ الْفَسْخَ كَمَالِكٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَالثَّوْرِيِّ، وَجَمَاعَةٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا تُرَدُّ إِلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ دُونَ يَمِينٍ، مَا لَمْ يَكُنْ صَدَاقُ الْمِثْلِ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَتْ، وَأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى هُوَ. وَاخْتِلَافُهُمْ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنِ ادَّعَى وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» هَلْ ذَلِكَ مُعَلِّلٌ أَوْ غَيْرُ مُعَلِّلٍ؟
فَمَنْ قَالَ: مُعَلِّلٌ قَالَ: يَحْلِفُ أَبَدًا أَقْوَاهُمَا شُبْهَةً، فَإِنِ اسْتَوَيَا تَحَالَفَا وَتَفَاسَخَا. وَمَنْ قَالَ: غَيْرُ مُعَلِّلٍ قَالَ: يَحْلِفُ الزَّوْجُ لِأَنَّهَا تُقِرُّ لَهُ بِالنِّكَاحِ وَجِنْسِ الصَّدَاقِ، وَتَدَّعِي عَلَيْهِ قَدْرًا زَائِدًا، فَهُوَ مُدَّعًى عَلَيْهِ. وَقِيلَ أَيْضًا: يَتَحَالَفَانِ أَبَدًا، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ لَمْ يُرَاعِ الْأَشْبَاهَ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ فِي الْمَذْهَبِ. وَمَنْ قَالَ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ رَأَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ أَبَدًا فِي الدَّعْوَى، بَلْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا وَلَا بُدَّ أَقْوَى شُبْهَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُو دَعْوَاهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيمَا يُعَادِلُ صَدَاقَ مِثْلِهَا فَمَا دُونَهُ، فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، أَوْ يَكُونَ فِيمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي التَّفَاسُخِ بَعْدَ التَّحَالُفِ وَالرُّجُوعِ إِلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ هُوَ: هَلْ يُشَبَّهُ النِّكَاحُ بِالْبَيْعِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَيْسَ يُشَبَّهُ؟
فَمَنْ قَالَ: يُشَبَّهُ بِهِ قَالَ بِالتَّفَاسُخِ. وَمَنْ قَالَ: لَا يُشَبَّهُ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْعَقْدِ قَالَ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ بَعْدَ التَّحَالُفِ وَكَذَلِكَ مَنْ زَعَمَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمَا بَعْدَ التَّحَالُفِ أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ، وَلَا أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا إِلَى قَوْلِ الْآخَرِ وَيَرْضَى بِهِ، فَهُوَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا فَإِنَّمَا يُشَبِّهُ بِاللِّعَانِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ ضَعِيفٌ، مَعَ أَنَّ وُجُودَ هَذَا الْحُكْمِ لِلِّعَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَا فِي الْقَبْضِ فَقَالَتِ الزَّوْجَةُ: لَمْ أَقْبِضْ، وَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ قَبَضَتْ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ، الشَّافِعِيُّ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: الْقَوْلُ قَوْلُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مَالِكٌ لِأَنَّ الْعُرْفَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ عِنْدَهُمْ أَنْ لَا يَدْخُلَ الزَّوْجُ حَتَّى يَدْفَعَ الصَّدَاقَ، فَإِنْ كَانَ بَلَدٌ لَيْسَ فِيهِ هَذَا الْعُرْفُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا أَبَدًا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا أَبَدًا أَحْسَنُ، لِأَنَّهَا مُدَّعًى عَلَيْهَا، وَلَكِنْ مَالِكٌ رَاعَى قُوَّةَ الشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ إِذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ مَالِكٍ إِذَا طَالَ الدُّخُولُ هَلْ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ بِيَمِينٍ، أَوْ بِغَيْرِ يَمِينٍ أَحْسَنُ.
وَأَمَّا إِذَا اخْتُلِفَ فِي جِنْسِ الصَّدَاقِ فَقَالَ هُوَ مَثَلًا: زُوِّجْتُكِ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ، وَقَالَتْ هِيَ: زُوِّجْتُكَ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، فَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ إِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبِنَاءِ ثَبَتَ، وَكَانَ لَهَا صَدَاقُ مِثْلٍ مَا لَمْ يَكُنْ أَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَتْ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا اعْتَرَفَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: يَتَحَالَفَانِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ بَعْدَ الدُّخُولِ. وَقَالَ أَصْبَغُ: الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إِنْ كَانَ يُشْبِهُ، سَوَاءٌ أَشْبَهَ قَوْلَهُمَا أَوْ لَمْ يُشْبِهْ، فَإِنْ لَمْ يُشْبِهْ قَوْلُ الزَّوْجِ: فَإِنْ كَانَ قَوْلُهَا مُشْبِهًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهَا مُشْبِهًا تَحَالَفَا، وَكَانَ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ. وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ عِنْدَ اخْتِلَافِهَا فِي الْقَدْرِ (أَعْنِي: يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَاجَعَانِ إِلَى مَهْرِ الْمِثْلِ). وَسَبَبُ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ بِالتَّفَاسُخِ فِي الْبَيْعِ سَتَعْرِفُ أَصْلَهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ فِي الْوَقْتِ: فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِي الْكَالِئِ. وَالَّذِي يَجِيءُ عَلَى أَصْلِ قَوْلِ مَالِكٍ فِيهِ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّ الْقَوْلَ فِي الْأَجَلِ قَوْلُ الْغَارِمِ، قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، وَيُتَصَوَّرُ أَيْضًا مَتَى يَجِبُ: هَلْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ؟
فَمَنْ شَبَّهَ النِّكَاحَ بِالْبُيُوعِ قَالَ: لَا يَجِبُ إِلَّا بَعْدَ الدُّخُولِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، إِذْ لَا يَجِبُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي إِلَّا بَعْدَ قَبْضِ السِّلْعَةِ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الصَّدَاقَ عِبَادَةٌ يُشْتَرَطُ فِي الْحِلْيَةِ قَالَ: يَجِبُ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلِذَلِكَ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ أَنْ يُقَدِّمَ الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ شَيْئًا مِنَ الصَّدَاقِ.

.الرُّكْنُ الثَّالِثُ: فِي مَعْرِفَةِ مَحَلِّ الْعَقْدِ:

وَكُلُّ امْرَأَةٍ فَإِنَّهَا تَحِلُّ فِي الشَّرْعِ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِنِكَاحٍ، أَوْ بِمِلْكِ يَمِينٍ. وَالْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ للنكاح بِالْجُمْلَةِ تَنْقَسِمُ أَوَّلًا إِلَى قِسْمَيْنِ: مَوَانِعَ مُؤَبَّدَةٍ. وَمَوَانِعَ غَيْرِ مُؤَبَّدَةٍ. وَالْمَوَانِعُ الْمُؤَبَّدَةُ تَنْقَسِمُ إِلَى: مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَمُخْتَلَفٍ فِيهَا. فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ثَلَاثٌ: نَسَبٌ، وَصِهْرٌ، وَرَضَاعٌ. وَالْمُخْتَلَفُ فِيهَا: الزِّنَى، وَاللِّعَانُ. وَالْغَيْرُ مُؤَبَّدَةٍ تَنْقَسِمُ إِلَى تِسْعَةٍ:
أَحَدُهَا: مَانِعُ الْعَدَدِ.
وَالثَّانِي: مَانِعُ الْجَمْعِ.
وَالثَّالِثُ: مَانِعُ الرِّقِّ.
وَالرَّابِعُ: مَانِعُ الْكُفْرِ.
وَالْخَامِسُ: مَانِعُ الْإِحْرَامِ.
وَالسَّادِسُ: مَانِعُ الْمَرَضِ.
وَالسَّابِعُ: مَانِعُ الْعِدَّةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي عَدَمِ تَأْبِيدِهِ.
وَالثَّامِنُ: مَانِعُ التَّطْلِيقِ ثَلَاثًا لِلْمُطَلِّقِ.
وَالتَّاسِعُ: مَانِعُ الزَّوْجِيَّةِ.
فَالْمَوَانِعُ الشَّرْعِيَّةُ بِالْجُمْلَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَانِعًا، فَفِي هَذَا الْبَابِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَصْلًا.

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي مَانِعِ النَّسَبِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ اللَّائِي يَحْرُمْنَ مِنْ قِبَلِ النِّسَبِ السَّبْعُ الْمَذْكُورَاتُ فِي الْقُرْآنِ: الْأُمَّهَاتُ، وَالْبَنَاتُ، وَالْأَخَوَاتُ، وَالْعَمَّاتُ، وَالْخَالَاتُ، وَبَنَاتُ الْأَخِ، وَبَنَاتُ الْأُخْتِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْأُمَّ هَاهُنَا: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ. وَالْبِنْتُ: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لَكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ مِنْ قِبَلِ الِابْنِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْبِنْتِ أَوْ مُبَاشَرَةً.
وَأَمَّا الْأُخْتُ: فَهِيَ اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى شَارَكَتْكَ فِي أَحَدِ أَصْلَيْكَ أَوْ مَجْمُوعَيْهِمَا (أَعْنِي: الْأَبَ أَوِ الْأُمَّ أَوْ كِلَيْهِمَا). وَالْعَمَّةُ: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى هِيَ أُخْتٌ لِأَبِيكَ، أَوْ لِكُلِّ ذَكَرٍ لَهُ عَلَيْكَ وِلَادَةٌ.
وَأَمَّا الْخَالَةُ: فَهِيَ اسْمٌ لِأُخْتِ أُمِّكِ، أَوْ أُخْتِ كُلِّ أُنْثَى لَهَا عَلَيْكَ وِلَادَةٌ. وَبَنَاتُ الْأَخِ: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لِأَخِيكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا أَوْ مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا أَوْ مُبَاشَرَةً.
وَبَنَاتُ الْأُخْتِ: اسْمٌ لِكُلِّ أُنْثَى لِأُخْتِكَ عَلَيْهَا وِلَادَةٌ مُبَاشِرَةٌ، أَوْ مِنْ قِبَلِ أُمِّهَا، أَوْ مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا. فَهَؤُلَاءِ الْأَعْيَانُ السَّبْعُ مُحَرَّمَاتٌ، وَلَا خِلَافَ أَعْلَمُهُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ النَّسَبَ الَّذِي يُحَرِّمُ الْوَطْءَ بِنِكَاحٍ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ.

.الْفَصْلُ الثَّانِي فِي الْمُصَاهَرَةِ:

وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ فَإِنَّهُنَّ أَرْبَعٌ:
زَوْجَاتُ الْآبَاءِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الْآيَةَ.
وَزَوْجَاتُ الْأَبْنَاءِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ}.
وَأُمَّهَاتُ النِّسَاءِ أَيْضًا.
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}.
وَبَنَاتُ الزَّوْجَاتِ. وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}. فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعُ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ اثْنَيْنِ مِنْهُنَّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ، وَهُوَ: تَحْرِيمُ زَوْجَاتِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ. وَوَاحِدَةٍ بِالدُّخُولِ وَهِيَ: ابْنَةُ الزَّوْجَةِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْهَا فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: هَلْ مِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ.
وَالثَّانِيَةُ: هَلْ تَحْرُمُ بِالْمُبَاشَرَةِ لِلْأُمِّ لِلَذَّةٍ أَوْ بِالْوَطْءِ؟
وَأَمَّا أُمُّ الزَّوْجَةِ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا هَلْ تَحْرُمُ بِالْوَطْءِ أَوْ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ فَقَطْ؟
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي مَسْأَلَةٍ رَابِعَةٍ، وَهِيَ هَلْ يُوجِبُ الزِّنَا مِنْ هَذَا التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ أَوِ النِّكَاحُ بِشُبْهَةٍ. فَهُنَا أَرْبَعَةُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى:

وَهِيَ هَلْ مِنْ شَرْطِ تَحْرِيمِ بِنْتِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ فِي حِجْرِ الزَّوْجِ أَمْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ؟
فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ التَّحْرِيمِ. وَقَالَ دَاوُدُ ذَلِكَ مِنْ شَرْطِهِ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ: هَلْ قَوْلُهُ تَعَالَى: {اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} وَصْفٌ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْحُرْمَةِ، أَوْ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ، وَإِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَوْجُودِ أَكْثَرَ؟
فَمَنْ قَالَ: خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَوْجُودِ الْأَكْثَرِ، وَلَيْسَ هُوَ شَرْطًا فِي الرَّبَائِبِ، إِذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الَّتِي فِي حِجْرِهِ أَوِ الَّتِي لَيْسَتْ فِي حِجْرِهِ قَالَ: تَحْرُمُ الرَّبِيبَةُ بِإِطْلَاقٍ. وَمَنْ جَعَلَهُ شَرْطًا غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى قَالَ: لَا تَحْرُمُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ فِي حِجْرِهِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [هَلْ تَحْرُمُ الْبِنْتُ بِمُبَاشَرَةِ الْأُمِّ فَقَطْ أَوْ بِالْوَطْءِ؟

]:
وَأَمَّا هَلْ تَحْرُمُ الْبِنْتُ بِمُبَاشَرَةِ الْأُمِّ فَقَطْ أَوْ بِالْوَطْءِ؟
فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُرْمَتَهَا بِالْوَطْءِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ الْوَطْءِ مِنَ اللَّمْسِ وَالنَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ لِشَهْوَةٍ أَوْ لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، هَلْ ذَلِكَ يُحَرِّمُ أَمْ لَا؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنَّ اللَّمْسَ لِشَهْوَةٍ يُحَرِّمُ الْأُمَّ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ دَاوُدُ وَالْمُزَنِيُّ: لَا يُحَرِّمُهَا إِلَّا الْوَطْءُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ الْمُخْتَارُ عِنْدَهُ، وَالنَّظَرُ عِنْدَ مَالِكٍ كَاللَّمْسِ إِذَا كَانَ نَظَرَ تَلَذُّذٍ إِلَى أَيِّ عُضْوٍ كَانَ، وَفِيهِ عَنْهُ خِلَافٌ. وَوَافَقَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النَّظَرِ إِلَى الْفَرْجِ فَقَطْ. وَحَمَلَ الثَّوْرِيُّ النَّظَرَ مَحْمَلَ اللَّمْسِ وَلَمْ يَشْتَرِطِ اللَّذَّةَ. وَخَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ فَلَمْ يُوجِبْ فِي النَّظَرِ شَيْئًا، وَأَوْجَبَ فِي اللَّمْسِ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ: هَلِ الْمَفْهُومُ مِنَ اشْتِرَاطِ الدُّخُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} الْوَطْءُ، أَوِ التَّلَذُّذُ بِمَا دُونَ الْوَطْءِ؟
فَإِنْ كَانَ التَّلَذُّذُ: فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ النَّظَرُ أَمْ لَا؟

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [هَلْ تَحْرُمُ أُمُّ الزَّوْجَةِ بِالْوَطْءِ، أَوْ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ؟

]:
وَأَمَّا الْأُمُّ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ كَافَّةِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ إِلَى أَنَّهَا تَحْرُمُ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْأُمَّ لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالدُّخُولِ عَلَى الْبِنْتِ، كَالْحَالِ فِي الْبِنْتِ (أَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ إِلَّا بِالدُّخُولِ عَلَى الْأُمِّ)، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلَيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ طُرُقٍ ضَعِيفَةٍ. وَمَبْنَى الْخِلَافِ: هَلِ الشَّرْطُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يَعُودُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وَهُمُ الرَّبَائِبُ فَقَطْ، أَوْ إِلَى الرَّبَائِبِ وَالْأُمَّهَاتِ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَ الرَّبَائِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}. فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} يَعُودُ عَلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ وَهُمُ الْبَنَاتُ. وَمِنَ الْحُجَّةِ لِلْجُمْهُورِ: مَا رَوَى الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَاحِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ فَلَا تَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا».

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [هَلْ يُوجِبُ الزِّنَا مِنَ التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ النِّكَاحُ الصَّحِيحُ أَوَالنِّكَاحُ بِشُبْهَةٍ]:

وأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فَاخْتَلَفُوا فِي الزِّنَا هَلْ يُوجِبُ مِنَ التَّحْرِيمِ فِي هَؤُلَاءِ مَا يُوجِبُ الْوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ (أَعْنِي: الَّذِي يُدْرَأُ فِيهِ الْحَدُّ)؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الزِّنَا بِالْمَرْأَةِ لَا يُحَرِّمُ نِكَاحَ أُمِّهَا وَلَا ابْنَتِهَا وَلَا نِكَاحَ أَبِي الزَّانِي لَهَا وَلَا ابْنِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: يُحَرِّمُ الزِّنَا مَا يُحَرِّمُ النِّكَاحُ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَفِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ، وَرَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحَرِّمُ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: أَصْحَابُ مَالِكٍ يُخَالِفُونَ ابْنَ الْقَاسِمِ فِيهَا، وَيَذْهَبُونَ إِلَى مَا فِي الْمُوَطَّأِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ أَنَّ الْوَطْءَ بِشُبْهَةٍ لَا يُحَرِّمُ، وَهُوَ شَاذٌّ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: الِاشْتِرَاكُ فِي اسْمِ النِّكَاحِ (أَعْنِي: فِي دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ وَاللُّغَوِيِّ). فَمَنْ رَاعَى الدَّلَالَةَ اللُّغَوِيَّةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} قَالَ: يُحَرِّمُ الزِّنَا. وَمَنْ رَاعَى الدَّلَالَةَ الشَّرْعِيَّةَ قَالَ: لَا يُحَرِّمُ الزِّنَا. وَمَنْ عَلَلَ هَذَا الْحُكْمَ بِالْحُرْمَةِ الَّتِي بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ، وَبَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ قَالَ: يُحَرِّمُ الزِّنَا أَيْضًا.
وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالنَّسَبِ قَالَ: لَا يُحَرِّمُ لِإِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ عَلَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يَلْحَقُ بِالزِّنَا. وَاتَّفَقُوا فِيمَا حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَلَى أَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يُحَرَّمُ مِنْهُ مَا يُحَرِّمُ الْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْثِيرِ الْمُبَاشَرَةِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي النِّكَاحِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي مَانِعِ الرَّضَاعِ:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ بِالْجُمْلَةِ يَحْرُمُ مِنْهُ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ (أَعْنِي: أَنَّ الْمُرْضِعَةَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْأُمِّ)، فَتَحْرُمُ عَلَى الْمُرْضَعِ هِيَ وَكُلُّ مَنْ يَحْرُمُ عَلَى الِابْنِ مِنْ قِبَلِ أُمِّ النَّسَبِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ، وَالْقَوَاعِدُ مِنْهَا تِسْعٌ:
إِحْدَاهَا: فِي مِقْدَارِ الْمُحَرِّمِ مِنَ اللَّبَنِ.
وَالثَّانِيَةُ: فِي سِنِّ الرَّضَاعِ.
وَالثَّالِثَةُ: فِي حَالِ الْمُرْضَعِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عِنْدَ مَنْ يَشْتَرِطُ لِلرَّضَاعِ الْمُحَرَّمِ وَقْتًا خَاصًّا.
وَالرَّابِعَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ وُصُولُهُ بِرَضَاعِ وَالْتِقَامِ الثَّدْيِ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؟
وَالْخَامِسَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُخَالَطَةُ أَمْ لَا يُعْتَبَرُ؟
وَالسَّادِسَةُ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُصُولُ مِنَ الْحَلْقِ أَوْ لَا يُعْتَبَرُ؟
وَالسَّابِعَةُ: هَلْ يُنَزَّلُ صَاحِبُ اللَّبَنِ (أَعْنِي: الزَّوْجَ) مِنَ الْمُرْضَعِ مَنْزِلَةَ أَبٍ (وَهُوَ الَّذِي يُسَمُّونَهُ لَبَنَ الْفَحْلِ) أَمْ لَيْسَ يُنَزَّلُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ أَبٍ.
وَالثَّامِنَةُ: الشَّهَادَةُ عَلَى الرَّضَاعِ. وَالتَّاسِعَةُ: صِفَةُ الْمُرْضِعَةِ.

.الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: [فِي مِقْدَارِ الْمُحَرِّمِ مِنَ اللَّبَنِ]:

أَمَّا مِقْدَارُ الْمُحَرِّمِ مِنَ اللَّبَنِ: فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا فِيهِ بِعَدَمِ التَّحْدِيدِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَهَؤُلَاءِ يُحَرِّمُ عِنْدَهُمْ أَيُّ قَدْرٍ كَانَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بِتَحْدِيدِ الْقَدْرِ الْمُحَرِّمِ، وَهَؤُلَاءِ انْقَسَمُوا إِلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ، وَتُحَرِّمُ الثَّلَاثُ رَضَعَاتٍ فَمَا فَوْقَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُحَرِّمُ خَمْسُ رَضَعَاتٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مُعَارَضَةُ عُمُومِ الْكِتَابِ لِلْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي التَّحْدِيدِ، وَمُعَارَضَةُ الْأَحَادِيثِ فِي ذَلِكَ بَعْضُهَا بَعْضًا. فَأَمَّا عُمُومُ الْكِتَابِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الْآيَةَ، وَهَذَا يَقْتَضِي مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِرْضَاعِ.
وَالْأَحَادِيثُ الْمُتَعَارِضَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى حَدِيثَيْنِ فِي الْمَعْنَى:
أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ عَائِشَةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ أَوِ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ، وَمِنْ طَرِيقِ أَمِّ الْفَضْلِ، وَمِنْ طَرِيقٍ ثَالِثٍ، وَفِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ». وَالْحَدِيثُ الثَّانِي: حَدِيثُ سَهْلَةَ فِي سَالِمٍ أَنَّهُ قَالَ لَهَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ». وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ». فَمَنْ رَجَّحَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ قَالَ: تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ. وَمَنْ جَعَلَ الْأَحَادِيثَ مُفَسِّرَةً لِلْآيَةِ، وَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيَةِ، وَرَجَّحَ مَفْهُومَ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» عَلَى مَفْهُومِ دَلِيلِ الْخِطَابِ فِي حَدِيثِ سَالِمٍ قَالَ: الثَّلَاثَةُ فَمَا فَوْقَهَا هِيَ الَّتِي تُحَرِّمُ، وَذَلِكَ أَنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: «لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ» يَقْتَضِي أَنَّ مَا فَوْقَهَا يُحَرِّمُ، وَدَلِيلُ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: «أَرَضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ» يَقْتَضِي أَنَّ مَا دُونَهَا لَا يُحَرِّمُ، وَالنَّظَرُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ دَلِيلَيِ الْخِطَابِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: [فِي سِنِّ الرَّضَاعِ]:

وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ يُحَرِّمُ فِي الْحَوْلَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ: فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ وَكَافَّةُ الْفُقَهَاءِ: لَا يُحَرِّمُ رَضَاعُ الْكَبِيرِ. وَذَهَبَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ إِلَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَائِشَةَ. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ هُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي ذَلِكَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثَانِ: أَحَدُهُمَا حَدِيثُ سَالِمٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالثَّانِي: حَدِيثُ عَائِشَةَ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّ الرَّضَاعَةَ مِنَ الْمَجَاعَةِ». فَمَنْ ذَهَبَ إِلَى تَرْجِيحِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: لَا يُحَرِّمُ اللَّبَنُ الَّذِي لَا يَقُومُ لِلْمُرْضَعِ مَقَامَ الْغِذَاءِ، إِلَّا أَنَّ حَدِيثَ سَالِمٍ نَازِلَةٌ فِي عَيْنٍ، وَكَانَ سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَوْنَ ذَلِكَ رُخْصَةً لِسَالِمٍ، وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ سَالِمٍ وَعَلَّلَ حَدِيثَ عَائِشَةَ بِأَنَّهَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ قَالَ: يُحَرِّمُ رَضَاعُ الْكَبِيرِ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: [فِي حَالِ الْمُرْضِعِ]:

وَاخْتَلَفُوا إِذَا اسْتَغْنَى الْمَوْلُودُ بِالْغِذَاءِ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ، وَفُطِمَ، ثُمَّ أَرْضَعَتْهُ امْرَأَةٌ حكم التحريم من هذا الرضاع: فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُحَرِّمُ ذَلِكَ الرَّضَاعُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ الرَّضَاعَ الَّذِي يَكُونُ فِي سِنِّ الْمَجَاعَةِ كَيْفَمَا كَانَ الطِّفْلُ وَهُوَ سِنُّ الرَّضَاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ إِذَا كَانَ الطِّفْلُ غَيْرَ مَفْطُومٍ، فَإِنْ فُطِمَ فِي بَعْضِ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يَكُنْ رَضَاعًا مِنَ الْمَجَاعَةِ، فَالِاخْتِلَافُ آيِلٌ إِلَى أَنَّ الرَّضَاعَ الَّذِي سَبَبُهُ الْمَجَاعَةُ وَالِافْتِقَارُ إِلَى اللَّبَنِ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ الِافْتِقَارُ الطَّبِيعِيُّ لِلْأَطْفَالِ، وَهُوَ الِافْتِقَارُ الَّذِي سَبَبُهُ سِنُّ الرَّضَاعِ، أَوِ افْتِقَارُ الْمُرْضَعِ نَفْسِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْتَفِعُ بِالْفَطْمِ وَلَكِنَّهُ مَوْجُودٌ بِالطَّبْعِ، وَالْقَائِلُونَ بِتَأْثِيرِ الْإِرْضَاعِ فِي مُدَّةِ الرَّضَاعِ سَوَاءٌ مَنِ اشْتَرَطَ مِنْهُمُ الْفِطَامَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، فَقَالَ: هَذِهِ بِالْمُدَّةِ حَوْلَانِ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ زُفَرُ، وَاسْتَحْسَنَ مَالِكٌ التَّحْرِيمَ فِي الزِّيَادَةِ الْيَسِيرَةِ عَلَى الْعَامَيْنِ، وَفِي قَوْلٍ: الشَّهْرُ عَنْهُ، وَفِي قَوْلٍ عَنْهُ: إِلَى ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: حَوْلَانِ وَسِتَّةُ شُهُورٍ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ مَا يُظَنُّ مِنْ مُعَارَضَةِ آيَةِ الرَّضَاعِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} يُوهِمُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى هَذَيْنِ الْحَوْلَيْنِ لَيْسَ هُوَ رَضَاعَ مَجَاعَةٍ مِنَ اللَّبَنِ، وَقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ الْمَجَاعَةِ» يَقْتَضِي عُمُومُهُ أَنَّ مَا دَامَ الطِّفْلُ غِذَاؤُهُ اللَّبَنُ أَنَّ ذَلِكَ الرِّضَاعَ يُحَرِّمُ.

.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: [هَلْ يُحَرِّمُ اللَّبَنُ الَّذِي يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ مِنْ غَيْرِ رَضَاعٍ؟

]:
وَأَمَّا هَلْ يُحَرِّمُ الْوَجُورُ وَاللَّدُودُ، وَبِالْجُمْلَةِ مَا يَصِلُ إِلَى الْحَلْقِ مِنْ غَيْرِ رَضَاعٍ؟
فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يُحَرِّمُ الْوَجُورُ وَاللَّدُودُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَدَاوُدُ: لَا يُحَرِّمُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الْمُعْتَبَرُ وُصُولُ اللَّبَنِ كَيْفَمَا وَصَلَ إِلَى الْجَوْفِ، أَوْ وُصُولُهُ عَلَى الْجِهَةِ الْمُعْتَادَةِ؟
فَمَنْ رَاعَى وُصُولَهُ عَلَى الْجِهَةِ الْمُعْتَادَةِ وَهُوَ الَّذِي يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّضَاعِ قَالَ: لَا يُحَرِّمُ الْوَجُورُ وَلَا اللَّدُودُ. وَمَنْ رَاعَى وُصُولَ اللَّبَنِ إِلَى الْجَوْفِ كَيْفَمَا وَصَلَ قَالَ: يُحَرِّمُ.

.الْمَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: [هَلْ يُعْتَبَرُ فِي اللَّبَنِ عَدَمُ الْمُخَالَطَةِ أَمْ لَا يُعْتَبَرُ؟

]:
وَأَمَّا هَلْ مِنْ شَرْطِ اللَّبَنِ الْمُحَرِّمِ إِذَا وَصَلَ إِلَى الْحَلْقِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُخَالِطٍ لِغَيْرِهِ؟
فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: إِذَا اسْتُهْلِكَ اللَّبَنُ فِي مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ سُقِيَهُ الطِّفْلُ لَمْ تَقَعِ الْحُرْمَةُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ، وَابْنُ حَبِيبٍ، وَمُطَرِّفٌ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: تَقَعُ بِهِ الْحُرْمَةُ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوِ انْفَرَدَ اللَّبَنُ أَوْ كَانَ مُخْتَلِطًا لَمْ تَذْهَبْ عَيْنُهُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَبْقَى لِلَّبَنِ حُكْمُ الْحُرْمَةِ إِذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ، أَمْ لَا يَبْقَى بِهِ حُكْمُهَا، كَالْحَالِ فِي النَّجَاسَةِ إِذَا خَالَطَتِ الْحَلَالَ الطَّاهِرَ. وَالْأَصْلُ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ انْطِلَاقُ اسْمِ اللَّبَنِ عَلَيْهِ كَالْمَاءِ هَلْ يَطْهُرُ إِذَا خَالَطَهُ شَيْءٌ طَاهِرٌ؟